أتمتة الأعمال تمنح البشر قدراً أكبر من الأهمية

-

بقلم باو فييت لو، الشريك في بين أند كومباني الشرق الأوسط، وأندرو شويديل، الشريك في بين أند كومباني نيويورك

كانت هناك الكثير من المخاوف التي ظهرت خلال القرن الماضي من مشاكل البطالة الجماعية التي سبّبتها التطورات التقنية والاعتماد على الأتمتة. وفي السنوات الأخيرة، ساهمت أعمال التطوير في مجال التعلم الآلي، بالإضافة إلى الخدمات الحديثة والمتقدمة تقنياً مثل سيري من آبل وإليكسا من أمازون، إلى تصاعد هذه المخاوف من جديد. ومع توجه الشركات إلى الاعتماد على الأنظمة المتطورة والأتمتة في ظل انتشار الجائحة، فمن المرجح أن تستمر هذه المخاوف في الازدياد.

لم يتسبب التقدّم التقني في إنهاء الأعمال، حتى الآن على الأقل، ولكنه ساهم على نحو كبير في دورات عديدة من التغيير العميق في الدور الذي يؤديه الإنسان في المجال الاقتصادي. وعلى مدى السنوات الـ 150 الماضية، تفاعلت التقنيات مع قوى هيكلية موازية، مثل العولمة، وتغير أذواق المستهلكين، والتغيرات الديموغرافية، لإحداث تطور في أنماط العمل باستمرار.

وبالنظر قدماً نحو المستقبل، سيكون من المبالغة تخيل أن الجيل القادم من الموظفين سيكون بالكامل من مهندسي البرمجيات وعلماء البيانات. ومما لا شك فيه أن الأنظمة الرقمية ستستمر في دفع عجلة الطلب السريع على هذه المهن، وسيتمخض عنه تعرض الشركات لنقص العمالة في هذه المجالات لسنوات عديدة قادمة. كما ستتطلب معظم الوظائف، وبشكل متزايد، مستوى أساسياً من المعرفة في المجالات الرقمية. ورغم ذلك، فإن تطوير أدوار الخبراء التقنيين يشكّل جزءاً يسيراً من الصورة الكاملة. وهذا يتضح على وجه الخصوص، مع توجهنا نحو عالم من الأتمتة القائمة على حلول الخدمة الذاتية منخفضة التعليمات البرمجية.

وعلى مدى السنوات العشر القادمة، سيؤدي التفاعل المُعقد بين الأتمتة والقوى الأخرى مرةً أخرى إلى التأثير في أنواع المجالات المهنية وظهور أنماط جديدة من الأعمال وتراجع البعض الآخر. وسيساهم ارتفاع أعمار السكان في زيادة الطلب على العاملين في مجال الرعاية الصحية. وسيؤدي انتقال العمل المنزلي ليصبح جزءاً من الاقتصاد الرسمي إلى زيادة الطلب على الضيافة والخدمات الشخصية المختلفة. وسيؤدي التوجه المتواصل نحو التجارة الإلكترونية إلى تقليل الحاجة إلى عمال المبيعات مع زيادة الحاجة إلى عمال النقل. وفي الوقت نفسه، ستؤدي أتمتة المهام الروتينية إلى انخفاض وظائف المبيعات، مع الحفاظ على نمو الوظائف في النقل والضيافة عند مستويات أقل مما كنا نشهده. ومن جانب آخر، فإن أتمتة الوظائف التصنيعية والإدارية ستسرع التراجع الذي أحدثته العولمة في العقود الأخيرة.

تظهر هذه الأنماط ضمن الاقتصادات المتقدّمة، مع وجود القوى المؤثرة نفسها. أما بالنسبة للأسواق الناشئة التي تشهد حالة من التغير الاقتصادي، فإن الصورة غير واضحة بسبب الحركة المستمرة للعاملين في مجال الزراعة وتوجههم نحو القطاعات اليدوية الأخرى، مثل التصنيع والبناء.

ولمعرفة كيفية تأثير هذه الأنماط المتغيرة في المجالات المهنية على المهارات والخبرات التي يجب توفّرها في العاملين في المستقبل، قمنا بتصنيف أكثر من 2000 نشاط أساسي في مختلف المهن إلى خمس فئات:

  • فيزيائي – العمل الذي يتضمن التواصل المباشر مع البيئة المادية، مثل تشغيل الآلات أو تحضير الطعام.
  • معالجة المعلومات – العمل الذي يركّز على جمع المعلومات وهيكلتها، مثل تجميع البيانات أو الاحتفاظ بالسجلات.
  • حل المشكلات – العمل الذي يستلزم صياغة المسائل وتقييم الخيارات ووضع الأحكام، مثل وصف العلاجات أو تحسين العمليات التجارية.
  • الإبداع – العمل الذي يركز على تخيل إمكانات جديدة وتشكيل أفكار أصلية، مثل تصميم المنتجات أو إعداد استراتيجية عمل.
  • العلاقات الشخصية – العمل الذي يتضمن التفاعل مع الآخرين لفهم احتياجاتهم وتحقيق الأهداف المشتركة، مثل التدريس أو التفاوض.

يُمكن أن تكون الحدود التي تفصل بين هذه الأنشطة غير واضحة في بعض الأحيان، ورغم ذلك فإن الفوارق تساعد في توصيف الطبيعة المتغيرة للعمل. إن الطبيعة الأكثر تكراراً لمعظم الأنشطة التي ترتبط بالفئتين الفيزيائية ومعالجة المعلومات تجعلها مرشحة بشكل أساسي للتوجه نحو الأتمتة. تُعد أنشطة حل المشكلات والإبداع والعلاقات الشخصية أكثر تنوعاً في طبيعتها وأكثر اعتماداً على القدرات البشرية الكبيرة. سيتمكن العمال من تحسين أدائهم على نحو متزايد في هذه المجالات بالاعتماد على المساعدين الافتراضيين المدعومين من الذكاء الاصطناعي، لكن عدد قليل من الخبراء يعتقدون أن مثل هذه التقنيات ستتقدّم بوتيرة سريعة بما يكفي للتأثير في المشاركة البشرية والتخلي عنها في أي وقت قريب.

وعلى المدى الطويل، هناك عنوان إيجابي واحد على الأقل ينتج عن التوجه نحو الأتمتة، وهو التخلي عن أيام الوظائف التي تجعلنا نشعر بأننا أقل شبهاً بالبشر وأقرب إلى عمل الآلات.

سيكون التحدي الأكبر في المستقبل هو تحديد كيفية نقل العمال من المهن المتراجعة إلى وظائف المستقبل. ولحسن الحظ، فإن قائمة الوظائف التي يُمكن أن يؤديها العاملون في الوظائف التي لا تحتاج للكثير من الخبرات وتشهد تراجعاً في الطلب عليها، تكاد لا تنتهي، وخاصةً في حالة الحصول على التدريب والدعم المناسبين. لقد غيّر الإنترنت اقتصاد المعرفة، حيث منح العاملين في العديد من المهن إمكانية الوصول إلى المعلومات التي يحتاجون إليها للقيام بوظائفهم بضغطة زر واحدة. وفي هذه البيئة، يكون للقدرة الأساسية للعامل على حل المشكلات والإبداع والعلاقات الشخصية تأثيرًا أكبر بكثير على الأداء. ولكن كيف يمكن لقادة الأعمال مساعدة العمال في تطوير هذه القدرات؟

أولاً، التوجه نحو حل المشكلات. إن الفكرة القائلة بأن الذكاء ثابت منذ سن مبكرة، مع انخفاض المرونة العصبية بمرور الوقت، هي فكرة عفا عليها الزمن. الاعتقاد السائد بين العلماء في الوقت الحالي هو أن الدماغ أشبه بالعضلة، ويمكن تحسين أداؤه بشكل مفيد طوال حياتنا. تُشير الأبحاث أن تزويد العمال بالمجموعة الصحيحة من استراتيجيات التفكير، ومن ضمنها وضع تصور شامل، وتقسيم المشكلة، وتأطيرها، وتنفيذ التفكير القياسي – يمكن أن يحسن بشكل كبير من القدرة على اتخاذ القرارات في العمل. نعلم أيضاً أن العلاقة بين معدل الذكاء والنجاح الاقتصادي ضعيفة، حيث إن العديد من الأفراد ذوي الذكاء العالي مقيدون في وظائف منخفضة المهارات تمنعهم من إطلاق العنان لقدراتهم الكاملة لحل المشكلات المعقدة.

ثانياً، التوجه نحو الإبداع. في حين أن العبقرية الإبداعية الحقيقية قد تكون نادرة، تظهر الأدلة أن الإبداع اليومي المطلوب للنجاح في وظائف المستقبل يمكن تدريسه من خلال تعريف العمال بالتقنيات الصحيحة. ومع ذلك، فإن الأمر الأكثر أهمية هو تأسيس بيئة تسمح بإطلاق العمال العنان لإبداعهم. يتطلب ذلك مستويات عالية من التفاعل الشخصي على المستويين الرسمي وغير الرسمي، فضلاً عن الانفتاح الواضح على الأفكار الجديدة وتقّبل الفشل.

ثالثاً وأخيراً، التوجه نحو تحفيز التواصل بين الأشخاص. يتحدد الذكاء العاطفي بشكل أساسي بناءً على نوع الشخصية، وهو ما يسميه علماء النفس “الوفاق”. تُفيد الأبحاث بوجود علاقة سلبية بين الوفاق ومستوى الدخل، وهو ما يُمكن أن يشير إلى أنه خلال العقود الأخيرة، حقّق أولئك الذين يتبنون نهجاً أكثر عدوانية في التواصل نجاحاً مهنياً أعلى. ومع ذلك، فإن التعاطف والاستبطان (التأمل الذاتي) والتكيف السلوكي تعتبر من العوامل الحاسمة بشكل متزايد في وظائف المستقبل. واليوم سيكون للعمال ذوي المهارات المنخفضة قيمة كبيرة يمكن الاستفادة منها، وهناك أيضاً أدلة كثيرة على أن المهارات الشخصية يمكن صقلها وتطويرها، وخاصة عن طريق تحديد النماذج السلوكية.

Share







Leave a reply

Your email address will not be published. Required fields are marked
Your email address will not be published. Required fields are marked